شؤون سياسية

زلزال إسطنبول: كيف اكتسح مرشح المعارضة الانتخابات؟!

لم يمثل فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول مفاجأة في حد ذاته، فكثير من استطلاعات الرأي كانت تمنحه أفضلية على مرشح حزب العدالة والتنمية “الحاكم” بن علي يلدريم، حتى تلك التي أشارت إلى احتمالية فوز يلدريم منحته السبق بفارق ضئيل للغاية.

لكن المفاجأة الأكبر التي كانت بمثابة زلزال سياسي هي اكتساح إمام أوغلو النتائج بفارق حوالي ٩٪ أي ما يقارب ٨٠٠ ألف صوت وهو فارق كبير غير مسبوق في نتائج انتخابات البلدية الأكبر والأهم على مستوى بلديات تركيا الإحدى والثمانين، ما يؤشر إلى أننا أمام مشهد جدير بالبحث وراء فوز إمام أوغلو بهذه النسبة المرتفعة، وكيف سترتد تبعاتها على المشهدين الحزبي والسياسي في تركيا.

لماذا فاز إمام أوغلو بهذه النتيجة؟

وفق النتائج الأولية شبه الرسمية فقد حصل إمام أوغلو على 4,698,782 صوتا بنسبة 54٪ حيث تمكن من زيادة الأصوات التي حصل عليها قبل حوالي ثلاثة أشهر في مارس الماضي بأكثر من500 ألف صوت، أما يلدريم فقد حصل على 3,921,201 صوتا بنسبة 45٪ بتراجع سجل أكثر من 200 ألف صوت عن تلك التي حصل عليها في مارس الماضي فما الذي حدث خلال هذه الفترة الوجيزة وأدى إلى هذه التغييرات الدراماتيكية؟

من الاعتساف اختزال الأسباب في سبب وحيد بل هي جملة من المؤثرات أدت إلى تلك النتيجة:

  • شخصية أكرم أوغلو نفسه فقد نجح في تسويق نفسه كشاب (٤٨ عاما) تولى عدة مناصب قيادية وتنفيذية آخرها رئيس قضاء بيليكدوزو في إسطنبول وتمكن من تحقيق إنجازات إنشائية وعمرانية مشهودة في القضاء، كما أنه رجل أعمال ناجح شارك في إدارة استثمارات أسرته في مجال العقارات والإنشاءات، كما نجح إمام أوغلو في الابتعاد خطوات عن حزب الشعب الجمهوري الذي يحمل كثير من سكان إسطنبول له صورة سيئة نظرا لفشله في إدارة المدينة قبل سنوات طويلة حيث عانت في عهده من أزمات متراكمة في إمدادات المياه والكهرباء وجمع النفايات وسوء البنية التحتية ..إلخ، استراتيجية إمام أوغلو في بناء صورته الذهنية في الوعي الجمعي حرصت على تقديم صورة مختلفة عن تلك التي رسخت في وعي الأتراك عن حزب الشعب الجمهوري كحزب إقصائي يفرق بين المواطنين على أساس الأفكار والمعتقدات، لكن إمام أوغلو أظهر احترامه للحجاب ولشعائر الإسلام معتمدا على خلفيته الدينية التي اكتسبها من خلال دراسته في مدارس الأئمة والخطباء وانتمائه لأسرة محافظة.
  • خطاب المظلومية الذي روج له بنجاح إمام أوغلو اعتمادا على قرار الهيئة العليا للانتخابات إعادة الاقتراع فيما لم ينجح حزب العدالة والتنمية في تسويق أسباب الطعون التي تقدم بها للهيئة، واتضح ذلك بوضوح في المناظرة التي جمعت إمام أوغلو بيلدريم حيث تمكن الأول من شرح مظلوميته معتمدا على الأرقام وتسلسل الأحداث (بغض النظر عن معرفته مسبقا بأسئلة المناظرة كما اتضح لاحقا) هذه المظلومية وجدت طريقها بنجاح للناخب خاصة بين فئة الشباب مما حدا بكثيرين لتحويل وجهتهم التصويتية صوب إمام أوغلو حتى من داخل الكتلة التي صوتت ليلدريم من قبل.
  • استفاد إمام أوغلو استفادة واضحة من الأصوات الكردية في إسطنبول وبدا واضحا أن رسالة زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان التي أرسلها من محبسه حيث يقضي عقوبة السجن مدى الحياة وطالب فيها الأكراد بالتزام الحياد بدا أنها لم تجد آذانا مصغية رغم دعم الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش لها من سجنه.
  • نجح إمام أوغلو في مخاطبة فئة الشباب الذين يمثلون كتلة تصويتية مهمة والذين ربما رأوا فيه شخصا قريبا منهم ومن أحلامهم خاصة وأن هذا الجيل لم يعاصر تركيا القديمة وبالتالي لا يشعر بالامتنان تجاه حزب العدالة والتنمية وما حققه من إنجازات على مستوى البنية التحتية أو الاقتصاد أو الحريات العامة، فهو ينظر إلى تلك الإنجازات على كونها جزءاً من عمل الحكومة يجب عليها إنجازه مقابل التفويض الممنوح لها، ورغم الجهد الذي بذله يلدريم في جولة الإعادة لمخاطبة هذه الشريحة العمرية سواء من خلال اللقاءات المباشرة أو من خلال منصات التواصل الاجتماعي إلا أنه لم ينجح في إحداث اختراق ذي قيمة واضحة، عكس منافسه الذي أظهر من الحيوية والنشاط الكفيلين بإقناع قطاع عريض من شريحة الشباب بالتصويت له.
  • العامل الاقتصادي لعب كذلك دورا واضحا في التمهيد لخسارة حزب العدالة والتنمية ليس في إسطنبول وحدها بل في بلديات كبرى مهمة كأنطاليا خاصة وأن إسطنبول تساهم بنحو 22٪ من الناتج القومي التركي أي أنها لصيقة الصلة بالتقلبات الاقتصادية التي أدت إلى تراجع سعر الليرة وارتفاع نسبة التضخم التي قادت إلى ارتفاع الأسعار وكلها عوامل أثرت دونما شك على المزاج العام للناخبين رغم أن منصب رئيس البلدية غير مؤثر في رسم السياسات الاقتصادية لتركيا أو تنفيذها.
  • استفاد إمام أوغلو من ورقة اللاجئين الذين يقيمون بصورة غير شرعية داخل إسطنبول رغم أنه عندما سئل في المناظرة التي جمعته بيلدريم عن رؤيته لتلك المشكلة جاء رده – خلاف المتوقع – هادئا وإيجابيا ووعد بإيجاد حل في أقرب وقت للمشكلة، في مقابل حلول عملية قدمها يلدريم في ذات المناظرة لكن يبدو أن الضغط الذي يمثله اللاجئون داخل إسطنبول لعب دورا في حسم قرار الناخب رغبة منه في إيصال رسالة واضحة للحكومة، التي لم تكن غائبة عن المشهد ووعدت على لسان وزير الداخلية سليمان صويلو بالتدخل لحل المشكلة خلال وقت قصير، وكما يبدو فإن سكان إسطنبول لم تقنعهم تلك الوعود واختاروا الاحتجاج عبر صناديق الاقتراع.
  • نجح إمام أوغلو في توظيف انحداره من ولاية طرابزون إحدى ولايات منطقة البحر الأسود شمال الأناضول، فسكان إسطنبول المنحدرون من تلك المنطقة يشكلون حوالي ملايين نسمة (أردوغان نفسه ينحدر من ذات المنطقة وتحديدا ولاية ريزة) وكان الحشد الجماهيري الذي حضر اللقاء الذي عقده إمام أوغلو في مسقط رأسه طرابزون يوم ٥ يونيو مؤشرا واضحا على نجاحه في استغلال تنوع سكان إسطنبول للتصويت لصالحه
الارتدادات السياسية والحزبية

ارتدادات الاكتساح الكبير لإمام أوغلو تتجاوز فوزه برئاسة البلدية الأهم والأكبر داخل تركيا، فمهمته داخل البلدية لن تكون سهلة إذ يشكل حزب العدالة والتنمية معظم أعضاء مجلس البلدية مما سيغل يد إمام أوغلو ويجبره على التعاون مع الحزب الحاكم من أجل تحقيق إنجازات يشعر بها سكان إسطنبول وهو ما حدا به إلى طلب لقاء أردوغان وإعلانه استعداده للعمل معه من أجل نجاح المشروعات الكبرى داخل إسطنبول.

لكن المشهد السياسي يتجاوز ذلك ببعيد إذ ارتفع سقف طموح أحزاب المعارضة ربما للإعداد للإطاحة بأردوغان نفسه في الانتخابات المقبلة 2023 لكن ذلك لن يكون بالأمر السهل إذ سيتوقف على مقدار النجاح الذي سيحققه أكرم إمام أوغلو في رئاسته للبلدية وتنفيذ وعوده الانتخابية، إضافة إلى بقاء التحالف الحزبي القائم الآن على ما هو عليه دون تفكيك وهو أمر مشكوك فيه، والأهم من كل ذلك فإنه من الصعوبة بمكان التنبؤ من الآن بشكل المشهد الانتخابي عام 2023 من حيث أسماء المرشحين وانتماءاتهم والتحالفات التي ستكون موجودة آنذاك، والظروف السياسية والاقتصادية التي ستغلف المشهد آنذاك

وإذا كانت أحزاب المعارضة ستأخذ وقتا ليس بالقليل للإفاقة من نشوة الانتصار الذي حققته فإن حزب العدالة والتنمية الحاكم وجد نفسه وعلى الفور وسط العاصفة رغم أنه تصدر الانتخابات البلدية وفق النتائج الكلية وحافظ على صدارته رغم مرور سبعة عشر عاما على استلامه الحكم وهو إنجاز يحسب له دونما شك.

لكن خسارة إسطنبول في جولة إعادة سعى إليها الحزب بكل الطرق القانونية المتاحة وبهذه النتيجة فإنها دونما شك أكدت حاجة الحزب إلى تقييمات جذرية ملحة تتحلى بشجاعة لا يملكها داخل الحزب إلا أردوغان نفسه بحيث تعيد وضع الحزب على ذات الطريق الذي بدأ منه مسيرته وتزيل عنه آثار الترهل التي أصابته بفعل مكوثه في السلطة كل هذه الفترة.

إن الخطوة التي بدأها أردوغان بإنشاء مجلس استشاري ضم إليه كثيرا من القيادات السابقة وعلى رأسهم رئيس البرلمان الأسبق وأحد مؤسسي الحزب بولنت آرينتش يجب أن تستمر لجذب جميع الأسماء التي تركت الحزب في وقت ما دونما استثناء.

فحزب العدالة والتنمية قد يكون أمام ارتداد صعب إذا ما أعلن بعض قيادات الحزب السابقين (عبد الله غل – أحمد داود أوغلو- على باباجان) تأسيس حزب جديد مما سيعمق من جراحات العدالة والتنمية حتى وإن لم يحقق الحزب الجديد نجاحات ذات شأن.

لم يكن العدالة والتنمية مجرد حزب سياسي فلكم مر على الجمهورية التركية أحزاب كانت ذات شأن لكن نجاح أردوغان تمثل في قدرته على بناء تيار جامع تجاوز الاستقطابات المعروفة (إسلاميين وعلمانيين) إلى مشروع يهدف للتحرر الوطني وبناء دور إقليمي وعالمي لتركيا يتناسب مع خصائصها الجغرافية والتاريخية والبشرية، هذا المشروع جمع تحت مظلته الإسلامي والقومي والعلماني والمحجبة وغير المحجبة والتركي والكردي.. إلخ. ومازالت تركيا في حاجة ماسة إليه لإتمام تحولها الأكبر للخروج من نظام الوصاية

وإذا كان من الطبيعي أن يتعرض ذلك الجسد الكبير (حوالي 10 ملايين منتسب للحزب) لانتكاسات مؤقتة فإن ذلك يحتم سرعة التحرك للعلاج وهو ما قد نشهده خلال الأيام القليلة المقبلة.

وهكذا فإن إسطنبول التي منحت أردوغان العام الماضي في انتخابات الرئاسة 50٪ من أصوات ناخبيها مقابل 37٪ فقط لمنافسه مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إنجه تعود اليوم لتدق ناقوس الخطر!!

(الجزيرة مباشر)
زر الذهاب إلى الأعلى