ماذا وراء الهجوم الإرهابي على تركيا؟
جاء الهجوم الإرهابي على شركة صناعات الطيران والفضاء في أنقرة في توقيت حسّاس في السياسة الداخلية التركية، وكذلك التطورات الإقليمية وخصوصًا احتمالات توسع العدوان “الإسرائيلي” في المنطقة، ما يحمل دلالات عديدة، ويحيل على رسائل سياسية وعسكرية وأمنية لأنقرة من عدة أطراف.
الهجوم
قالَ وزير الداخلية التركي إن الهجوم الذي استهدف شركة صناعات الطيران والفضاء “توساش” في أنقرة في الـ 23 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قد أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة 14 آخرين، مؤكدًا تحييد المنفذَيْن (رجل وسيدة حسب الصور والفيديوهات من مكان الهجوم).
كما شجب الرئيس رجب طيب أردوغان الهجوم واصفًا إياه بـ “الهجوم الدنيء الذي يستهدف بقاء تركيا وسلامتها ومبادراتها الدفاعية” التي ترمز لاستقلالها.
وكانت وسائل إعلام تركية نقلت أخبارًا عن هجوم على الشركة التي تعدّ من بين أهم الشركات في مجال الصناعات الدفاعية والطيران في البلاد، وعن حصول تفجير قد يكون ناتجًا عن عملية انتحارية وحدوث اشتباكات متقطعة، إضافة لأنباء عن وجود رهائن بأيدي المهاجمين، قبل أن يُحظر النشر بخصوص القضية، كما هو المعتاد في التعامل مع الهجمات الإرهابية في البلاد.
ويعد هذا الهجوم الأكبر من نوعه منذ مدة ليست بالقصيرة، حيث كان العمال الكردستاني قد نفذ آخر عملية له في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي ضد مقر الشرطة في العاصمة أنقرة، والذي أسفر عن إصابة شرطيين ومقتل المهاجمين.
وفي حين لم تتبنَّ أي جهة، حتى كتابة هذه السطور، المسؤولية عن الهجوم، إلا أن الطريقة المتبعة تشبه إلى حد بعيد الأسلوب التقليدي لعمليات حزب العمال الكردستاني، المنظمة الانفصالية المصنفة على قوائم الإرهاب، وهو ما يعززه كذلك السياق الذي أتى فيه الهجوم.
السياق: المسألة الكردية
أتى الهجوم بعد يوم واحد فقط من تصريحات مهمة لدولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية والرئيس أردوغان والمعروف بموقفه المتشدد من المسألة الكردية، والتي شغلت الرأي العام وكواليس السياسة بشكل كبير.
فبعد أيام من مصافحته ممثلي حزب مساواة وديمقراطية الشعوب، وهو خليفة حزب الشعوب الديمقراطي والواجهة الحالية للتيار الكردي اليساري المرتبط بالكردستاني، دعا بهتشلي في كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية زعيم الكردستاني المعتقل عبدالله أوجلان لإلقاء كلمة في البرلمان أمام كتلة حزب مساواة وديمقراطية الشعوب البرلمانية “يعلن فيها نهاية الإرهاب تمامًا وحل المنظمة”، داعيًا إلى “سياسة بلا إرهاب” وإلى “إخراج مشكلة الإرهاب التاريخية والثقيلة من جدول أعمال تركيا”.
ومما زاد في أهمية التصريح ودلالاته السياسية تأييد الرئيس أردوغان لهذا الطرح، مضيفًا أنه ينتظر “إدراك الجميع بأنه لا مكان للإرهاب في مستقبل تركيا”، معبرًا عن أمله بألا تذهب “نافذة الفرصة التاريخية التي فتحها تحالف الجمهور ضحية لحسابات شخصية”.
كما قالت الرئيس التشاركي لحزب مساواة وديمقراطية الشعوب تولاي خاتم أوغوللاري إن “البداية ينبغي أن تكون إنهاء عزل أوجلان”، وأكدت على أن “بوصلة حل المشكلة الكردية هي المفاوضات السياسية، والسلام المشرف”.
عززت هذه التصريحات الانطباع باحتمال وجود مسار سياسي جديد بخصوص المسألة الكردية في البلاد، بعد توقف المسار المسبق في 2015، لا سيما أن الرئيس التركي يتحدث منذ أسابيع عن ضرورة “تمتين الجبهة الداخلية” لحماية تركيا من الأخطار الخارجية التي باتت تتهددها مع “السياسات التوسعية لإسرائيل في المنطقة” على حد تعبيره، وتزايد احتمالات الحرب الإقليمية حسب وزير الخارجية هاكان فيدان.
يضع ما سبق الهجوم في سياق السياسة الداخلية التركية وتحديدًا الورقة الكردية، وهذا ما أكده وزير الدفاع يشار غولر الذي وجّه أصابع الاتهام للعمال الكردستاني، كما تعززه التصريحات اللاحقة عليه.
فقد قال بهتشلي نفسه إنه “لن يتمكن أي مشروع دموي غادر أن يصمد أمام أخوّتنا ووحدتنا الوطنية”، بينما قال الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش “لن نسمح هذه المرة بكتم أصوات دعاة السلام”، كما أكد حزب مساواة وديمقراطية الشعوب على “دعم مساعي السلام والحوار بشكل أقوى من أي وقت مضى”.
ومن المهم الإشارة إلى أن أنقرة تتعامل مع العمال الكردستاني كمظلة فيها عدد من التيارات المتنافسة وربما المتصارعة، والتي لا يريد بعضها حصول الأكراد على كامل حقوقهم في البلاد، بقدر ما يريد استمرار العمليات الإرهابية، وهو ما يجعلهم أداة في أيدٍ خارجية ضاغطة على أنقرة.
الرسائل الخارجية
تحمّل تفاصيل العملية وإشاراتها الكثيرةُ الهجومَ أبعادًا خارجية إلى جانب الداخلية. فقد استهدف الهجوم أكبر شركات تصنيع الطائرات في تركيا المملوكة للقوات المسلحة التركية والحكومة والتي تعمل على تطوير أول طائرة مقاتلة محلية الصنع، إضافة لمشاريع أخرى واعدة.
كما أتى الهجوم بعد يوم واحد من افتتاح معرض SAHA EXPO الدولي للصناعات الدفاعية والجوية والفضاء في إسطنبول، والذي تشارك به 1478 شركة صناعات دفاعية من أكثر من 120 دولة.
يعني ذلك أن ثمة استهدافًا لقطاع الصناعات الدفاعية في تركيا، والذي بات القطاع الأكثر توسعًا ونموًا في البلاد، ورفع سمعة تركيا دوليًا، وأدخلها نادي الدول المصدرة للسلاح بقوة ولا سيما في مجال المسيّرات، إضافة إلى أنه بات يؤمّن أكثر من 80 % من احتياجات أنقرة من السلاح في السنوات القليلة الأخيرة، فضلًا عن أن المسيّرات شكلت نحو 80% من صادراتها في 2023.
هنا، يمكن استعادة تصريح أردوغان بضرورة تقوية تركيا لنفسها في مجال الصناعات الدفاعية “حتى لا تستطيع إسرائيل فعل ما تقوم به الآن”، مذكّرًا بمساهمة بلاده عسكريًا في كل من ليبيا وجنوب القوقاز، وإلى إمكانية تكرار ذلك في فلسطين، وهو التصريح الذي ردّ عليه وزير خارجية الاحتلال بتهديد أردوغان “بمصير صدام حسين”.
كما أن الموقف الرسمي التركي يركز كثيرًا على خطر بات يتهدد الأمن القومي التركي من التصعيد “الإٍسرائيلي” في المنطقة، بمهاجمة لبنان، وتهديد إيران واحتمال غزو سوريا، حيث قال أردوغان محذرًا “إنهم بعيدون عنا مسافة ساعتين ونصف فقط”.
هذا البعد الخارجي يتعزز كذلك مع توقيت الهجوم الذي وافق مشاركة الرئيس التركي في قمة مجموعة “بريكس” في قازان، والتي ينظر الكثيرون لها كتكتل اقتصادي منافس أو بديل عن مجموعة الدول السبع، حيث يضم دولًا مثل: روسيا، والصين، والهند، والتي تعلن أنقرة مؤخرًا سعيها لعضويته. ولا بد من الإشارة إلى التطابق بين اسم المدينة التي تحتضن القمة (قازان) وضاحية أنقرة التي توجد فيها الشركة المستهدفة (قازان)، بغض النظر عن مدى التعمد أو المصادفة في ذلك.
ولأن السعي التركي لعضوية مجموعة “بريكس”، إضافة لعضوية منظمة “شنغهاي” للتعاون، يأتي في سياق علاقات غير مستقرة مع الغرب، في ظل جمود مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي وعقوبات أميركية؛ بسبب صفقة منظومة إس- 400 الدفاعية الروسية ومماطلة واشنطن في إتمام صفقات تصدير سلاح (مقاتلات إف- 16 مؤخرًا)، والتوتر التركي – الغربي مع الحرب على غزة، وتوجس تركيا من دور اليونان وقبرص في أي سيناريو من هذا النوع، فإن ذلك يعيد إحياء جدل “تحويل أنقرة وجهتَها من الغرب للشرق”.
وفي الخلاصة، حمل الهجوم الإرهابي على شركة صناعات الطيران والفضاء في العاصمة أنقرة دلالات واضحة على ارتباطه باحتمالات العودة لمسار سياسي داخلي فيما يتعلق بالمسألة الكردية، في ظل الخلافات المعروفة في التيارات المنضوية تحت مظلة العمال الكردستاني.
لكنه كذلك يحمل إشارات واضحة على رسائل ضغط خارجية تتعلق بهذا الملف أولًا، ثم بملفات أخرى في مقدمتها الصناعات الدفاعية، ومحاولات الاستقلال في مجال صناعة السلاح، والموقف من الحرب على غزة، واحتمالات تصعيد الاحتلال الحرب في المنطقة، فضلًا عن علاقات تركيا مع الولايات المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي.
ورغم كل ذلك، يبقى الهجوم محدودًا في أثره وتداعياته، خصوصًا إذا ما كان هجومًا منفردًا وليس في سياق حملة تصعيد جديدة. هجوم هدفه التشويش والإزعاج وإيصال رسائل الضغط، والتي أثبتت التجارب المتكررة أنها لن تكون ذات فائدةٍ أو أثرٍ في المسارات الداخلية في تركيا.